فصل: (مَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.(لَكِنْ):

لِلِاسْتِدْرَاكِ مُخَفَّفَةٌ وَمُثَقَّلَةٌ وَحَقِيقَتُهُ رَفْعُ مَفْهُومِ الكلام السابق تقول ما زيد شجاع ولكنه غير كريم فرفعت بـ: (لكن) مَا أَفْهَمَهُ الْوَصْفُ بِالشَّجَاعَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْكَرَمِ لَهُ لِكَوْنِهِمَا كَالْمُتَضَايِفَيْنِ فَإِنْ رَفَعْنَا مَا أَفَادَهُ مَنْطُوقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَذَاكَ اسْتِثْنَاءٌ وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ بِوَجْهٍ مَا فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا بَيْنَ مُتَوَافِقَيْنِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}.
لِكَوْنِهِ جَاءَ فِي سِيَاقِ لَوْ وَلَوْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُمْتَنِعَةٌ فِي الْمَعْنَى فَلَمَّا قِيلَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} عُلِمَ إِثْبَاتُ مَا فُهِمَ إِثْبَاتُهُ أَوَّلًا وَهُوَ سَبَبُ التَّسْلِيمِ وَهُوَ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى وَلَكِنَّ اللَّهَ مَا أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لِيُسَلِّمَكُمْ فَحُذِفَ السَّبَبُ وَأُقِيمَ الْمُسَبِّبُ مَقَامَهُ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْفَرْقُ بَيْنَ بَلْ وَلَكِنْ وَإِنِ اتَّفَقَا فِي أَنَّ الْحُكْمَ لِلثَّانِي أَنَّ لَكِنْ وَضْعُهَا عَلَى مُخَالَفَةِ مَا بَعْدَهُمَا لِمَا قَبْلَهُمَا وَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا مُثْبَتًا لِامْتِنَاعِ تَقْدِيرِ النَّفْيِ فِي الْمُفْرَدِ وَإِذَا كَانَ مُثْبَتًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ نَفْيًا كَقَوْلِكَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو وَلَوْ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا بَلْ فَلِلْإِضْرَابِ مُطْلَقًا مُوجَبًا كَانَ الْأَوَّلُ أَوْ مَنْفِيًّا.
وَإِذَا ثَقُلَتْ فَهِيَ مِنْ أَخَوَاتِ إِنَّ تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ وَلَا يَلِيهَا الْفِعْلُ وَأَمَّا وُقُوعُ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} وَهُوَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فَجَوَابُهُ أَنَّهَا هُنَا لَيْسَتِ الْمُثَقَّلَةُ بَلْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ وَالتَّقْدِيرُ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي.
وَلِهَذَا تُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْأَلِفِ وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِهَا إِلَّا أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى النُّونِ فَالْتَقَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَمَوْضِعُ أَنَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ والله مبتدأ ثالث وربي خبر المبتدأ الثالث وَالْمُبْتَدَأُ الثَّالِثُ وَخَبَرُهُ خَبَرُ الثَّانِي وَالثَّانِي هُوَ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالرَّاجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ الْيَاءُ.
ثُمَّ الْمُخَفَّفَةُ قَدْ تَكُونُ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَهِيَ عَامِلَةٌ وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ عَامِلَةٍ فَيَقَعُ بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ نَحْوَ مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو فَتَكُونُ عَاطِفَةً عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فَهَلْ هِيَ لِلْعَطْفِ أَوْ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ قَوْلَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنِ الله يشهد}.
قَالَ: وَنَظِيرُ فَائِدَةِ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَعَلَى الْعَطْفِ لَا يَجُوزُ وَعَلَى كَوْنِهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ يَجُوزُ.
قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَاوُ انْتَقَلَ الْعَطْفُ إِلَيْهَا وَتَجَرَّدَتْ لِلِاسْتِدْرَاكِ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ تَشْدِيدُ النُّونِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْوَاوِ وَتَخْفِيفُهَا إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا وَعَلَى هَذَا جَاءَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يجحدون} {ولكن أكثرهم لا يعلمون} {لكن الله يشهد} {لكن الرسول} {لكن الذين اتقوا} {لكن الظالمون اليوم}.
وَعَلَّلَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ تَكُونُ عَاطِفَةً فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وَاوٍ مَعَهَا كَـ (بَلْ) فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا وَاوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ لِأَنَّ بَلْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُشَدَّدَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ وَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ولكن رسول الله} فأكثرهم على تخفيفها ونصب رسول بِإِضْمَارِ كَانَ أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى أَبَا أَحَدٍ.
وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ لَكِنْ لَيْسَتْ عَاطِفَةً لِأَجْلِ الْوَاوِ فَالْأَلْيَقُ لَهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْجُمَلِ كَـ: (بَلْ) الْعَاطِفَةِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِتَشْدِيدِهَا عَلَى أَنَّهَا عَامِلَةٌ وَحُذِفَ خَبَرُهَا أَيْ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَيْ مُحَمَّدٌ.

.(لَعَلَّ):

تَجِيءُ لَمَعَانٍ:
الْأَوَّلُ: لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ نَحْوُ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَنَا وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَكْرُوهِ نَحْوُ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَاصِي ثُمَّ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ التَّرَجِّيَ لِلْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ.
فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لعله يتذكر أو يخشى.
مَعْنَاهُ كُونَا عَلَى رَجَائِكُمَا فِي ذِكْرِهِمَا يَعْنِي أَنَّهُ كَلَامٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى جَانِبِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا جَازِمَيْنِ بِعَدَمِ إِيمَانِ فِرْعَوْنَ.
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمَا فِي الْخَوْفِ ففي قوله تعالى: {لعل الساعة قريب}.
فَإِنَّ السَّاعَةَ مَخُوفَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قوله: {والذين آمنوا مشفقون منها}.
وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ؟ هَلْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمَحْبُوبِ أَوْ مُطْلَقًا وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَحْبُوبِ فَهَلْ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لَهَا عَنْ وَضْعِ التَّرَجِّي إِلَى وَضْعِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ مَجَازًا أَمْ لَا؟
قُلْتُ: لَيْسَ إِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا مِنَ الْكَرِيمِ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَعْرِضُ بِأَنْ يَفْعَلَ إِلَّا بَعْدَ التَّصْمِيمِ عَلَيْهِ فَجَرَى الْخِطَابُ الْإِلَهِيُّ مَجْرَى خِطَابِ عُظَمَاءِ الملوك من الخلق وقوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} الآية إلى: {تتقون} إِطْمَاعُ الْمُؤْمِنِ بِأَنْ يَبْلُغَ بِإِيمَانِهِ دَرَجَةَ التَّقْوَى الْعَالِيَةَ لِأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَفْتَتِحُهَا وَبِالْإِيمَانِ يَخْتَتِمُهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الشَّرْعُ مُلْزِمٌ.
وَقَدْ قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدْ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ إِذَا أَطْمَعَ فَعَلَ مَا يُطْمِعُ لَا مَحَالَةَ فَجَرَى إِطْمَاعُهُ مَجْرَى وَعْدِهِ فَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ.
وَهَذَا فِيهِ رَائِحَةُ الِاعْتِزَالِ فِي الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْإِطْمَاعُ دُونَ التَّحْقِيقِ كَيْلَا يَتَّكِلَ الْعِبَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم}.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَعَلَّ طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَفُسِّرَ في كثير من المواضع بـ: (لا) وَقَالُوا إِنَّ الطَّمَعَ وَالْإِشْفَاقَ لَا يَصِحُّ عَلَى الله تعالى.
وقال: وَلَعَلَّ وَإِنْ كَانَ طَمَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي فِي كَلَامِهِمْ تَارَةً طَمَعَ الْمُخَاطِبِ وَتَارَةً طَمَعَ الْمُخَاطَبِ وَتَارَةً طَمَعَ غَيْرِهِمَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّنَا نتبع السحرة}. فَذَلِكَ طَمَعٌ مِنْهُمْ فِي فِرْعَوْنَ.
وَفِي قَوْلِهِ: {لعله يتذكر أو يخشى}. إِطْمَاعُ مُوسَى وَهَارُونَ وَمَعْنَاهُ قُولَا لَهُ قَوْلًا لينا راجيين أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى.
وَقَوْلِهِ: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بعض ما يوحى إليك} أَيْ تَظُنُّ بِكَ النَّاسُ.
وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لعلك باخع نفسك}، وقوله: {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} أي راجين الفلاح.
كما قال: كما قال: {يرجون رحمت الله}.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّرَجِّي إِلَّا في الممكن لأنه انتظار وَلَا يُنْتَظَرُ إِلَّا فِي مُمْكِنٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {لعلي أبلغ الأسباب} الْآيَةَ فَاطِّلَاعُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْإِلَهِ مُسْتَحِيلٌ وَبِجَهْلِهِ اعْتَقَدَ إِمْكَانَهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمَكَانَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
الثَّانِي: لِلتَّعْلِيلِ كقوله تعالى: {فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} {وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون} أَيْ كَيْ.
وَجَعَلَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أَيْ كَيْ حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ.
الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يحدث بعد ذلك أمرا} {وما يدريك لعله يزكى} وحكى البغوي في تفسيره عن الواقدي أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَعَلَّ فإنها للتعليل إلا قوله: {لعلكم تخلدون} فَإِنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ وَكَوْنُهَا لِلتَّشْبِيهِ غَرِيبٌ لَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَنَّ (لَعَلَّ) لِلتَّشْبِيهِ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لِلرَّجَاءِ الْمَحْضِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ كَيْفَ يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَاضِي.
وَقَدْ وَقَعَ خَبَرُ ليت ماضيا في قوله: {يا ليتني مت قبل هذا} وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى مَنْعِ وُقُوعِ الْمَاضِي خَبَرًا للعل الرماني.

.(لَيْسَ):

فِعْلٌ مَعْنَاهُ نَفْيُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي الْحَالِ إِذَا قُلْتَ لَيْسَ زَيْدًا قَائِمًا نَفَيْتَ قِيَامَهُ فِي حَالِكَ هَذِهِ وَإِنْ قُلْتَ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا غَدًا لَمْ يَسْتَقِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فَيَكُونُ فِيهَا مُسْتَقْبَلًا.
هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّهَا لِنَفْيِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عُمُومًا.
وَقِيلَ مُطْلَقًا حَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ: {أَلَا يَوْمَ يأتيهم ليس مصروفا عنهم}.
وَهَذَا نَفْيٌ لِكَوْنِ الْعَذَابِ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَصِحُّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَنْفِي عَنِ الْحَالِ بِالْقَرِينَةِ نَحْوُ لَيْسَ خَلْقُ اللَّهِ مِثْلَهُ.
وَهَلْ هُوَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ أَوِ الْوَحْدَةِ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ غَيْرَ ابْنِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ شَوَاهِدِ التَّوْضِيحِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَفِيهِ شَاهِدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ لَيْسَ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ بِهِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مِمَّا يُغْفَلُ عَنْهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لهم طعام إلا من ضريع}.

.(لَدُنْ):

بِمَعْنَى عِنْدَ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْهَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى ابْتِدَائِهَا بِهِ نَحْوُ: أَقَمْتُ عِنْدَهُ مِنْ لدن طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا فَتُوَضِّحُ نِهَايَةَ الْفِعْلِ وهي أبلغ من عند قال تعالى: {قد بلغت من لدني عذرا} {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا} {من لدن حكيم عليم} {فهب لي من لدنك وليا} وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي عِنْدَ.
وَقَدْ تحذف نونها قال تعالى: {وألفيا سيدها لدى الباب} {هذا ما لدي عتيد}.

.(مَا):

تَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا سِتَّةٌ منها أسماء وستة حروف:

.(ما) الاسمية:

فَالِاسْمِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَعْرِفَةٌ وَنَكِرَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَ مَوْضِعَهَا الَّذِي فَهِيَ مَعْرِفَةٌ أَوْ شَيْءٌ فَهِيَ نَكِرَةٌ وَإِنْ حَسُنَا مَعًا جَازَ الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ويغفر ما دون ذلك}. و: {هذا ما لدي عتيد}.
والنكرة: ضربان ضرب يلزم الصفة وضرب لا يلزمه والذي يلزمه الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ وَالتَّعَجُّبُ وَمَا عَدَاهَا تَكُونُ مِنْهُ نَكِرَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ صِفَةٍ تَلْزَمُهَا.
فَالْأَوَّلُ: مِنَ السِّتَّةِ: الْأَسْمَاءُ الْخَبَرِيَّةُ وَهِيَ الْمَوْصُولَةُ وَيَسْتَوِي فِيهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله باق}.
وقوله: {بما أنزل إليك} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض}.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُذَكَّرَ كَانَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِمَعْنَى الَّذِي وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَنَّثَ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى الَّتِي.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَذَا يقول النحويون إنها بمعنى الذي مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيْنَهُمَا تَخَالُفٌ فِي الْمَعْنَى وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ.
أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ مَا اسْمٌ مُبْهَمٌ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ حَتَّى إِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ نَحْوُ: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا لَمْ يَكُنْ).
وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَعْتًا لِمَا قَبْلَهَا وَلَا مَنْعُوتَةً لِأَنَّ صِلَتَهَا تُغْنِيهَا عَنِ النَّعْتِ وَلَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ انْتَهَى.
ثُمَّ لَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ وَيَجُوزُ مُرَاعَاتُهَا فِي الضَّمِيرِ.
وَنَحْوُهُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا ينفعهم}.
ثم قال: {هؤلاء شفعاؤنا}. لما أراد الجمع.
وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يستطيعون}.
وَمِنْ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إيمانكم} وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ما عندكم ينفد}.
وَقَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا لَا يَعْقِلُ تَغْلِيبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ ينظروا في ملكوت السماوات والأرض}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ بِدَلِيلِ نُزُولِ الْآيَةِ بَعْدَهَا مُخَصَّصَةً: {إِنَّ الذين سبقت لهم منا الحسنى}.
قَالُوا: وَقَدْ تَأْتِي لِأَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أَيِ الْأَبْكَارِ إِنْ شِئْتُمْ أَوِ الثَّيِّبَاتِ.
وَلَا تَكُونُ لِأَشْخَاصِ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا إِلَّا عَلَى جِنْسٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} والمراد آدم.
وقوله: {والسماء وما بناها} وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أَيِ اللَّهَ.
فَأَمَّا الْأُولَى فَقِيلَ إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وقال السهيل بَلْ إِنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا مِنْ حَيْثُ كَانَ السُّجُودُ لِمَا يَعْقِلُ وَلَكِنْ لِعِلَّةٍ أخرى وهي المعصية والتكبر فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِمَ عَصَيْتَنِي وَتَكَبَّرْتَ عَلَى مَا خَلَقْتُهُ وَشَرَّفْتُهُ فَلَوْ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَنْ؟ كَانَ اسْتِفْهَامًا مُجَرَّدًا مِنْ تَوْبِيخٍ وَلَتُوُهِّمَ أَنَّهُ وَجَبَ السُّجُودُ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ لِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ أَوْ لِذَاتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا آيَةُ السَّمَاءِ فَلِأَنَّ الْقَسَمَ تَعْظِيمٌ لِلْمُقْسَمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْآيَاتِ فَثَبَتَ لِهَذَا الْقَسَمِ بِالتَّعْظِيمِ كَائِنًا مَا كَانَ وَفِيهِ إِيحَاءٌ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِيجَادِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِلْمَعْنَى مَقْصُورًا عَلَى ذَاتِهِ دُونَ أَفْعَالِهِ وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ جَعَلَهَا بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ.
وَأَمَّا {مَا أَعْبُدُ} فَهِيَ عَلَى بَابِهَا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى مَعْبُودِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ مَعْبُودِي.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسُدُونَهُ وَيَقْصِدُونَ مُخَالَفَتَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ فَلَا يَصِحُّ فِي اللَّفْظِ إِلَّا لَفْظَةُ مَا لِإِبْهَامِهَا وَمُطَابَقَتِهَا لِغَرَضٍ أَوْ لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَعْقِلُ وَكَرَّرَ الْفِعْلَ عَلَى بِنْيَةِ الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ إِيمَاءً إِلَى عصمة الله له عن الزَّيْغِ وَالتَّبْدِيلِ وَكَرَّرَهُ بِلَفْظٍ حِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتَّبِعُونَ شَهَوَاتِهِمْ بِفَرْضِ أَنْ يعبدوا اليوم مالا يعبدون غدا.
وهاهنا ضابط حسن الفرق بَيْنَ الْخَبَرِيَّةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ مَا إِذَا جَاءَتْ قَبْلَ لَيْسَ أَوْ لَمْ أَوْ لَا أَوْ بَعْدَ إِلَّا فَإِنَّهَا تَكُونُ خَبَرِيَّةً كَقَوْلِهِ: {ما ليس لي بحق} {ما لم يعلم} {ما لا تعلمون} {إلا ما علمتنا}.
وَشَبَهِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْجَرِّ نَحْوُ رُبَّمَا وَعَمَّا وَفِيمَا وَنَظَائِرِهَا إِلَّا بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ.
وَرُبَّمَا كَانَتْ مَصْدَرًا بَعْدَ الْبَاءِ نحو: {بما كانوا يظلمون} {بما كانوا يكذبون} {بما تعملون}.
وَإِنْ وَقَعَتْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ سَابِقُهُمَا عِلْمٌ أَوْ دِرَايَةٌ أَوْ نَظَرٌ جَازَ فِيهَا الْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تكتمون} {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} {وإنك لتعلم ما نريد} {هل علمتم ما فعلتم}. {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} {ولتنظر نفس ما قدمت}.
الثَّانِي: الشَّرْطِيَّةُ وَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ وَيَعْمَلُ فِيهَا مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ نَحْوُ مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخير منها} {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عليم} {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله} {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا ممسك لها} فَـ: (مَا) فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا.
الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِمَعْنَى أي شيء ولها صدر الكلام كالشرط وَيُسْأَلُ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَا لَا يَعْقِلُ وَأَجْنَاسِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ أَجْنَاسِ الْعُقَلَاءِ وَأَنْوَاعِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ قال تعالى: {ما هي} و: {ما لونها} {وما تلك بيمينك يا موسى}.
قَالَ الْخَلِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} مَا اسْتِفْهَامٌ أَيْ أَيَّ شَيْءٍ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟
وَمِثَالُ مَجِيئِهَا لِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}، وَنَظِيرُهَا لَكِنْ فِي الْمَوْصُولَةِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لكم من النساء}.
وَجَوَّزَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يُسْأَلَ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَنْ يَعْقِلُ أَيْضًا حَكَاهُ الرَّاغِبُ فَإِنْ كَانَ مَأْخَذُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رب العالمين}. فَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَالِكُ وَالْمِلْكُ صِفَةٌ وَلِهَذَا أَجَابَهُ مُوسَى بِالصِّفَاتِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَا سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجَابَهُ مُوسَى تَنْبِيهًا عَلَى صَوَابِ السُّؤَالِ.
ثُمَّ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي إِعْرَابِهَا وَهُوَ بِحَسَبِ الِاسْمِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ نحو قوله تعالى: {ما لونها}. و: {ما هي} {ما أصابك من حسنة فمن الله} وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا هُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كانت في موضع الخبر كقوله: {ما الرحمن}. وَقَوْلِهِ: {مَا الْقَارِعَةُ}. {مَا الْحَاقَّةُ}.
الثَّانِيَةُ: فِي حَذْفِ أَلِفِهَا وَيَكْثُرُ فِي حَالَةِ الْخَفْضِ قَصَدُوا مُشَاكَلَةَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى فَحَذَفُوا الْأَلِفَ كَمَا أَسْقَطُوا الصِّلَةَ وَلَمْ يَحْذِفُوا فِي حَالِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ كَيْلَا تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ أَوْ مُضَافٌ اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْخَافِضَ وَالْمَخْفُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كقوله تعالى: {فيم أنت من ذكراها} {لم تحرم ما أحل الله لك} {فبم تبشرون} {عم يتساءلون}.
وأما قوله: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي}، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ بِأَيِّ شَيْءٍ غَفَرَ لِي فَجَعَلُوا مَا اسْتِفْهَامًا وَقَالَ الْكِسَائِيُّ مَعْنَاهُ بِمَغْفِرَةِ رَبِّي فَجَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةً.
قَالَ الْهَرَوِيُّ: إِثْبَاتُ الْأَلِفِ فِي مَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اتِّصَالِهَا بِحَرْفِ الْجَرِّ لُغَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لهم} فَقِيلَ إِنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ أَيْ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَقْعُدَنَّ أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ أُقْسِمُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ أَيْ فَأُقْسِمُ بِإِغْوَائِكَ لَأَقْعُدَنَّ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْإِغْوَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا وَالتَّكْلِيفُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ تَعْرِيفًا لِسَعَادَةِ الْأَبَدِ وَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يُقْسِمَ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ تَعَلُّقُهَا بِـ: {لَأَقْعُدَنَّ} قِيلَ يَصُدُّ عَنْهُ لَامُ الْقَسَمِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ وَاللَّهِ لَا بِزَيْدٍ لَأَمُرَّنَّ.
وَالرَّابِعُ: التَّعَجُّبِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} {قتل الإنسان ما أكفره} وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قراءة سعيد بن جبير: {ما غرك بربك الكريم}.
وتكون في موضع رفع بالابتداء وما خَبَرٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَالتَّعَجُّبَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ لِأَنَّكَ إِذَا تَعَجَّبْتَ مِنْ شَيْءٍ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهُ.
وَالْخَامِسُ: نَكِرَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ وَيَلْزَمُهَا النَّعْتُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مَا مُعْجِبًا لَكَ وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا بَعُوضَةً فَمَا فوقها}، {إن الله نعما يعظكم به} أَيْ نِعْمَ شَيْئًا يَعِظُكُمْ بِهِ.
وَالسَّادِسُ: نَكِرَةٌ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا صِلَةٍ كَالتَّعَجُّبِ وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصدقات فنعما هي}، أَيْ فَنِعْمَ شَيْئًا هِيَ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ أَيْ نِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا زَيْدٌ ثُمَّ قَامَ مَا مَقَامَ الشَّيْءِ.
فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ تَجِيءُ مَا مُضْمَرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذا رأيت ثم رأيت}.
أَيْ مَا ثَمَّ.
وَقَوْلِهِ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبينك}. أي ما بيني.
{لقد تقطع بينكم} أي ما بينكم.